مسيحيو الشرق في نداء العقيدة والمواطنة
بعد "وقفة حق" من قضية الاحتلال الاسرائيلي ، ها هم مسيحو الشرق يعلنون وقفة حق من قضية الحقوق الوطنية .
بعد “وقفة حق” من قضية الاحتلال الاسرائيلي ، ها هم مسيحو الشرق يعلنون وقفة حق من قضية الحقوق الوطنية .
في الوثيقة الأولى (كايروس)” التي صـدرت عـــن مجموعــة كنائــس القــدس بتاريــخ 11-12-2009 ، ناشد المسيحيون الشرقيون كنائس العالم :” ألا تعمل على اعطاء غطاء لاهوتي للظلم الذي نحن فيه أي لخطيئة الاحتلال المفروض علينا”.
وقال المسيحيون الشرقيون في وثيقتهم أيضاً :
“الكل يتكلم اليوم عن السلام ومسيرة السلام في الشرق الأوسط . وما زال ذلك كله حتى الآن كلاماً فقط ، بينما الواقع على الأرض هو الاحتلال الاسرائيلي للأراضي الفلسطينية وحرماننا حريتنا وكل ما ينتج عن ذلك من عواقب “.
ومن الأمثلة على انتهاك حريات المسيحيين الشرقيين ما أكدت عليه وثيقة الكنائس بقولها: “ان الحرية الدينية نفسها أصبحت محددة ، حرية الوصول الى الأماكن المقدسة ، بادّعاء الأمن . فمقدسات القدس محرّمة على العديد من المسيحيين والمسلمين من الضفة وغزة والقطاع ، وحتى على المقدسيين أنفسهم في الأعياد . كما ان البعض من كهنتنا العرب يعانون من منعهم من دخول القدس بصورة عادية” .
في وثيقة “وقفة حق – كايروس” أكد المسيحيون الشرقيون أيضاً على لسان كنائسهم المقدسية انهم صامدون في الجبهة الأمامية في التصدي للاحتلال الاسرائيلي . وأنهم يقاومون هذا الاحتلال ويعانون منه ، شأنهم في ذلك شأن اخوانهم الفلسطينيين الآخرين من المسلمين.
في ضوء هذه الخلفية ، أتناول وثيقة الملتقى الأكاديمي المسيحي للمواطنة في العالم العربي التي صدرت الآن وأتوقف أمام محطتين بارزتين وردتا في مقدمتها ، توضحان الاسباب الموجبة لهذه الوثيقة.
المحطة الأولى هي : “التفكير في الهم الواحد والمصير المشترك “.
ان ما يحدث في المشرق العربي هو بموجب توصيف الوثيقة له همّ واحد ومصير مشترك. ولذلك دعت الوثيقة الى التفكير معاً في هذا الهمّ الواحد من أجل صناعة المصير المشترك ومن أجل صياغة الرؤيا الموحدة .
اما المحطة الثانية فهي تحديد أهداف هذه الرؤيا الموحدة . وهذه الاهداف هي كما ورد في الوثيقة هي :
أ – “الصمود في أوطاننا” ، وليس الهجرة منها .
ب- “الانخراط في مجتمعاتنا” ، وليس الانكفاء عنها .
ج- ” العمل على نهضة شعوبنا” ، وليس فك الارتباط بها .
ان الغاية من تحقيق هذه الأهداف الجوهرية الثلاثة هي ، كما جاء في الوثيقة ايضاً : “كي تكون لنا حياة” . “ولتكن حياة أفضل” . أي ان حياة مسيحيي الشرق تكون –بموجب الوثيقة- من خلال الصمود في الوطن والانخراط في المجتمعات الوطنية ، ومن خلال العمل على نهضة هذه المجتمعات . وليس من خلال البحث عن وطن بديل ، ولا الاستسلام لارهاب القوى الظلامية الالغائية للآخر ، ولا اليأس من الاصلاح .
ومن خلال هذه المقاربة الإيجابية يمكن أن تشكل الوثيقة – بل ويجب أن تشكل- انطلاقة لحركة فكرية مسيحية تلتقي في أهدافها الوطنية والانسانية والدينية السامية مع تطلعات مسلمي الشرق الأوسط الذين يعانون من موجة الارهاب والتطرف ، بما يرافقها وينتج عنها من أعمال مشينة لا تمتّ الى التعاليم الدينية أو الى الروابط القومية بأي صلة .
ولأن التحدي واحد ، فان الوقوف في وجه هذا التحدي يجب أن يكون واحداً ايضاً . غير ان ما نصت عليه وثيقة الملتقى بشأن الدين والدولة ، يثير بعض التحفظ .
أتفهم ضروراته ولكنني في حلٍ من الالتزام به . وتجاوزاً لهذا التحفظ لا بد من القول بصوت عالٍ انه لا دولة دينية في الاسلام . بمعنى لا دولة يتولى شؤونها رجال دين يحكمون باسم الله أو نيابة عنه . ثم ان التجارب الانسانية أثبتت انه ما دخل الدين دولة الا وأفسدته.
ومما يحفزني أكثر على تجاوز التحفظ الذي أبدته الوثيقة ، معرفتي بأن الاسلام لم يقل بنظام سياسي محدد ، ولكنه أوصى بمبادئ عامة تقوم على احترام كرامة الانسان بصرف النظر عن إيمانه أو حتى عن عدم إيمانه ؛ كما تقوم على احترام حريته بعدم اكراهه على الإيمان ، بل انها تذهب الى أبعد من ذلك فتترك له حرية الايمان أو الكفر ، تاركة لله وحده يوم القيامة حصرية محاسبته ومكافأته أو معاقبته . وليس لأحد أن يفتش في ضميره .
القضية الثانية التي أثارتها الوثيقة تتعلق بالدساتير وحكم القانون . هنا ايضاً لا بد من التوقف أمام أمرين أساسيين :
الأمر الأول هو قضية تطبيق الشريعة الاسلامية .
ان هذه القضية خاصة بالمسلمين دون سواهم . بل أن محاولة فرض الشريعة على غيرهم يشكل انتهاكاً للاسلام نفسه . ذلك ان القرآن الكريم عندما يصف الانجيل والتوراة بأن “فيهما هدى ونور” ، وعندما يدعو المسيحيين واليهود “ليحكموا بما أنزل الله لهم في الانجيل وفي التوراة” ، كيف يجوز بعد ذلك لأي مسلم مخالفة هذه الدعوة القرآنية الصريحة والواضحة بمحاولة فرض أحكام الشريعة الاسلامية عليهم ؟ ثم ان الشريعة ليست نظاماً للحكم ولا هي نظام سياسي . ان الدساتير والقوانين تكون من عمل الناس بحيث تصاغ وفقاً لإرادتهم واستجابة لمصالحهم . وهو ما أكدت عليه وثيقة الأزهر الشريف . وفي عصر الدولة الوطنية فان الاساس هو الدستور والقوانين التي يتوافق المواطنون على صياغتها لادارة شؤون حياتهم المشتركة في تساوٍ في الحقوق والواجبات .
أما الأمر الثاني فهو الذمية .
ليست الذمية جزءاً من العقيدة الاسلامية ، ولا هي جزء من الشريعة . انها عقد مدني توافق عليه المسلمون مع اهل الكتاب من مسيحيين ويهود خلال فترة الفتوحات الاسلامية لسوريا الكبرى ومصر . وككل عقد يستمر أو يسقط برضى المتعاقدين . فاذا تخلى أحدهما عنه ينتهي حكماً . ولذلك فان الذمية كانت صيغة من صيغ تنظيم علاقات المسلمين مع غير المسلمين اعتُمدت في فترة زمنية محددة . غير ان الزمن تجاوزها الآن ، وتجاوزت هي ، كصيغة للتعامل ، الاسباب التي أوحت بها . وهي ليست بأي شكل من الأشكال صيغة ملزمة أو حكمية ، وقبل أن تسقط بمرور الزمن وتتغير الوقائع الاجتماعية والسياسية من خلال قيام مفهوم الدولة الوطنية ، سقطت معنوياً على أيدي أولئك الذين أساءوا استخدامها وشوّهوا مقاصدها في العهدين المملوكي والعثماني ، واصبحت الآن صفحة من التاريخ .
من اجل ذلك فان الوثيقة كانت على حق عندما أكدت على ان “ما تصبو اليه المنطقة العربية ما هو الا دولة القانون حيث تسود المواطنة المتساوية المتكافئة ، وحيث يحتفى بالتعددية السياسية والثقافية والاجتماعية –واضيف الى ذلك ، الدينية والمذهبية والعرقية ايضاً- في ظل دولة لا تميز بين مواطنيها بناء على الجنس أو الدين أو المذهب أو العرق أو اللون .
اما القضية الثالثة في الوثيقة فقد تناولت الشأن الأمني ببعده الاجتماعي . وسجلت الوثيقة ملاحظتين اعتقد انهما متلازمتان . الملاحظة الأولى هي ارتفاع نسبة الأمية الى 36 بالمائة، والملاحظة الثانية هي ارتفاع نسبة البطالة بحيث وصلت الى الأعلى عالمياً . فالعالم العربي يحتاج في عام 2050 الى 50 مليون فرصة عمل جديدة . ولا يبدو الاقتصاد العربي ينمو بوتيرة توفر هذا العدد الكبير من فرص العمل ، مما يضعنا أمام قنبلة اجتماعية موقوتة . مما يجعل ما يحدث اليوم مجرد “فتيشة” كما نقول بالعامية اللبنانية .
والواقع ان العالم العربي لا هو فقير في امكاناته الاقتصادية ، ولا هو فقير في قدراته الابداعية . غير ان هذه الإمكانات والقدرات تتسرب الى الخارج مما يحرم الداخل من التوظيفات الانسانية والمادية التي من شأنها ان ترفع من مستوى المعيشة وأن تحقق الأمن والاستقرار المنشودين . وهو الأمر الذي عالجته الوثيقة في قضيتها الرابعة حول ادارة وتنمية المواد البشرية والطبيعية .
لن أدخل في التفاصيل هنا ، ولكن أودّ أن ألفت النظر الى ما أوردته الوثيقة من أن “زرع دولةِ إسرائيل في قلبِ هذه المنطقةِ لعبَ دوراً مهماً في تـفتيتها وفي إهدار مواردها على التسلح، ناهيك عن الدور السلبي المتزايد الذي لعبته السياسات الخارجية للدول الكبرى والذي أدى إلى تمزيق النسيج الوطني والى نشوب عناصر التطرف المشين في معظم بلاد الشرق الأوسط إبان العقود الأخيرة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية”.
ويؤكد صوابية هذه الاشارة الواضحة والمباشرة ، الترابط الفكري والالتزام الوطني بين الوثيقتين : وثيقة الكنائس المقدسية – وقفة حق ، ووثيقة الملتقى الأكاديمي المسيحي – نداء العقيدة والمواطنة .
لقد أعطت وثيقة الملتقى حيزاً من الاهتمام لقضية المرأة (القضية الخامسة) ولقضية الشباب (القضية السادسة) . ورفعت صوتها عالياً مطالبة بفرض المشاركةِ الفعلية للمرأة في صنع القرارات وفي القيادة والمساهمة في حركة التطور والتنمية المستدامة وتفعيل كافة مكونات المجتمع.
كذلك رفعت صوتها عالياً مطالبة بتقويم العملية التربوية في ضوء توصيفها الموضوعي لواقع شباب مجتمعاتنا الذين هم في حالةِ استقطابٍ وانقسام على الذات، فمن بينهم –كما قالت الوثيقة- جماعاتٌ منغمسةٌ بالدين إلى أبعد الحدود ومجموعاتٌ أخَر ملـّت الدينَ والمتدينينَ وابتعدت عن الجوامعِ والكنائس.
لقد تحدثت الوثيقة بمنهجية علمية عن العلاقة بين كرامة الانسان وجودة العيش (القضية السابعة) ، وعن الروحانية والثقافة الانسانية (القضية الثامنة) ، كما تحدثت في القضية التاسعة عن التفكير في زمن التكفير ، ولاحظت كيف ان معظم مجتمعاتنا العربية مليئةً بالغيبيات التي تُخلط أحياناً بالدين، وتجعل من الفرد إنساناً اتكالياً على غيبٍ أو قـدَرٍ مجهول حيث يُستخدم الله كشماعة تحل مكان العقل والارادة والعمل، مما يفقد مجتمعاتنا التشخيص المعرفي والتحليل العلمي، كما يفقدها ثقافةِ استخدام العقل في فهم الامور على علاتها وليس كما نخمِّـنها أو كما نعللها أو كما نحلم بها.
وكما قال ابن رشد : ” لا يعقل أن يمنحنا الله العقل وشريعة تتناقض مع العقل ” !.
وهنا عكست الوثيقة مشاعر الألم لدى مسيحيي الشرق من جراء افتقاد مجتمعاتنا إلى زخم كاف من أصوات القيادات الدينية المتعقلة لمكافحة ظواهر التطرف المستفحلة إلى حد الإكراه في الدين، أو التكفيرأوالتهجير وإلاّ فالقتل.
أودّ أن أضيف هنا أمرين : الأمر الأول هو أن المقصود بالقيادات الدينية ، القيادات الاسلامية . وكان هذا صحيحاً جزئياً حتى يوم الثالث من ديسمبر ، عندما عقد مؤتمر الأزهر وأعلن مواقفه الصريحة والواضحة وبصوت عالٍ ضد الارهاب والتطرف . وقد سبق ذلك صدور وثيقة عمان التي سفهت منطق حركات التطرف التي اتخذت من الاسلام غطاء لها . والأمر الثاني هو ان مشاعر الألم هي مشاعر صادقة ومبررة. وهي مشاعر مسيحية واسلامية معاً .
وتعترف الوثيقة في قضيتها العاشرة والأخيرة ان المنطقة العربية تمر في حالة انسداد الأفق وهذا توصيف موضوعي . ولكنها مع ذلك ترفض وتحذر من أن تتسلل الى النفوس مشاعر اليأس والإحباط مما يقود الى الهجرة الخارجية ، أو الى التقوقع الاصولي الديني .
وتأكيداً لالتزامها بمجتمعها العربي ، تؤكد الوثيقة على ما بدأت به ، وهو العمل على وضع رؤيا مشتركة جامعة منفتحة على أبواب الفكر ، تحترم التعدد ومكوناته .
ولقد عبّرت عن هذا الالتزام ، الفقرة الأخيرة من الوثيقة تحت عنوان “دورنا المسيحي والانساني والوطني” ، حيث قالت :
“إننا نُدركُ أنَّ مستقبلَ مسيحيّي الشرق الأوسط وثيقُ الارتباط بمستقبلِ الشرق الأوسط ذاته؛ ولانزْعمُ أنَّ ثمة حلاً للمسيحيين وحدَهم أو أن هنالك وصفةً سحرية للمنطقة برمتها، فلا نفترضُ أنَّ المسيحيةَ هي الحلّ كما إن الإسلامَ ليس هو الحلّ. في الحقيقة ليس هنالك حلٌ ديني لما تعاني منه المنطقة”. وهذا صحيح .
وأختم بما بدأت به الوثيقة في البنود الإيمانية العشرة التي تُوجت بها ، والتي تتماهى مع آيات من القرآن الكريم : “نؤمن بالله الواحد الأحد، الذي خلق الكون وكـرّم الإنسان، بل جعله “خليفة” له على الأرض، وعهد إليه صيانتها وتزيينها؛ لذلك نلتزم بالحفاظ على الخليقة وإدارة مواردها كوكلاء أمناء، وصون كرامة الإنسان أياً كان جنسه أو عرقه أو دينه أو مذهبه”.
بهذه الروح ، أردد مع أصحاب الوثيقة :” آمين ، نؤمن ونلتزم”.
محمد السماك